فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن كثير:

هذا حديث غريب، وسياق عجيب، وهو من مرسلات ابن عباس، فإنه لم يشهد أحُدًا ولا أبوه.
وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي النَّضْر الفقيه، عن عثمان بن سعيد، عن سليمان بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس، به. وهكذا رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في دلائل النبوة، من حديث سليمان بن داود الهاشمي، به ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها، فقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا عطاء بن السائب عن الشعبي، عن ابن مسعود قال: إن النساء كن يوم أحد، خلْف المسلمين، يُجْهزْن على جَرْحى المشركين، فلو حَلَفت يومئذ رجوت أن أبَر: أنه ليس أحد منا يريد الدنيا، حتى أنزل الله عز وجل: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} فلما خالف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعَصَوا ما أمروا به، أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسعة: سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش، وهو عاشرهم، فلما رهقُوه قال: «رَحِمَ اللهُ رجلا رَدَّهُمْ عَنَّا». قال: فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل، فلما رَهقُوه أيضا قال: «رَحِمَ اللهُ رَجُلا رَدَّهُمْ عَنَّا». فلم يزل يقول ذا حتى قُتِل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه: «مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا».
فجاء أبو سفيان فقال: اعْلُ هُبَلُ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قُولُوا: اللهُ أعْلَى وأجَلُّ». فقالوا: الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قُولُوا: «اللهُ مَوْلانَا، وَالْكَافِرُونَ لا مَوْلَى لَهُم». ثم قال أبو سفيان: يومٌ بيوْم بَدْر، يومٌ علينا ويوم لنا ويوم نُسَاءُ ويوم نُسَر. حَنْظَلَةَ بِحَنْظَلَةَ، وفلان بفلان، وفلان بفلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا سَوَاء. أمَّا قَتْلانَا فَأْحَيْاءٌ يُرْزَقُونَ، وَقْتَلاكُمْ فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ». قال أبو سفيان: قد كان في القوم مَثُلَةٌ، وإنْ كانَتْ لَعَنْ غير مَلأ منَّا، ما أمرتُ ولا نَهَيْتُ، ولا أحْبَبْتُ ولا كَرِهتُ، ولا ساءني ولا سرَّني. قال: فنظروا فإذا حمزةُ قد بُقِرَ بَطْنُه، وأخذتْ هنْد كَبده فلاكَتْها فلم تستطع أن تأكلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكَلَتْ شَيْئًا؟» قالوا: لا. قال: «مَا كَانَ اللهُ ليُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ حَمْزَةَ فِي النَّارِ».
قال: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة فَصَلَّى عليه، وَجِيء برجل من الأنصار فَوُضِع إلى جنبه فصلَّى عليه، فَرُفِعَ الأنصاري وتُرِكَ حمزة، ثم جيء بآخر فوضعَه إلى جنب حمزة فصلى عليه ثم رُفِعَ وتُرِكَ حمزة، حتى صلَّى عليه يومئذ سبعين صلاة.
تفرد به أحمد أيضا. اهـ.

.قال الفخر:

وهذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن، لأنا بيّنا أن هذا الذنب كان من الكبائر، ثم أنه تعالى سماهم المؤمنين، فهذا يقتضي أن صاحب الكبيرة مؤمن بخلاف ما تقوله المعتزلة، والله أعلم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
صَدَقَ يتعدى لاثنين، أحدهما بنفسه، والآخر بالحرفِ، وقد يُحْذَف، كهذه الآية.
والتقدير: صدقكم في وعده، كقولهم: صَدقتُه في الحديث وصدقته الحديث و{إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} معمول لِـ {صَدَقَكُمْ} أي: صدقكم في ذلك الوقتِ، وهو وقتُ حَسِّهِم، أي: قَتْلهم.
وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولًا للوعد في قوله: {وَعْدَه}- وفيه نظرٌ؛ لأن الوعد متقدِّمٌ على هذا الوقت.
يقال: حَسَسْتُه، أحَسُّه، وقرأ عُبَيْد بن عُمَير: تُحِسُّونَهُم- رباعيًا- أي: أذهبتم حِسَّهم بالقتل.
قال أبو عبيدةَ، والزَّجَّاجُ: الحَسُّ: الاستئصال بالقَتْل.
قال الشاعر: [الطويل]
حَسَنَاهُمُ بِالسَّيْفِ حَسًّا فأصْبَحَتْ ** بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا

وقال جرير: [الوافر]
تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى ** حَرِيقُ النَّارِ فِي الأجَم الْحَصِيدِ

ويقال: جراد محسوس- إذ قتله البردُ- والبرد محسة للنبت:- أي: محرقة له، ذاهبته. وسنة حَسُوسٌ: أي: جدبة، تأكل كلَّ شيءٍ.
قال رؤية: [الرجز]
إذَا شَكَوْنَا سَنَةً حَسُوسَا ** تَأكُلُ بَعْدَ الأخْضَرِ الْيَبِيسَا

وأصله من الحِسّ- الذي هو الإدراك بالحاسة-.
قال أبو عبيدٍ: الحَسُّ: الاستئصال بالقتل واشتقاقه من الحِسّ، حَسَّه- إذا قتله- لأنه يُبْطل حِسَّه بالقتل، كما يقال: بَطَنَهُ- إذا أصاب بطنه، وَرَأسَهُ، إذا أصاب رأسه.
و{بإذْنِهِ} متعلق بمحذوف؛ لأنه حالٌ من فاعل {تَحُسُّونَهُمْ}، أي: تقتلونهم مأذونًا لكم في ذلك.
قال القرطبيُّ: ومعنى قوله: {بإذْنه} أي: بعلمه، أو بقضائه وأمره.
وقوله: {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} في {حَتَّى} قولان:
أحدهما: أنها حرف جر بمعنى إلى وفي متعلقها- حينئذ- ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنها متعلقة بـ {تَحسُّونَهُمْ} أى: تقتلونهم إلى هذا الوقت.
الثاني: أنها متعلقة بـ {صَدَقَكُمْ} وهو ظاهر قول الزمخشريّ، قال: ويجوز أن يكون المعنى: صدقكم اللهُ وَعْدَه إلى وقت فَشَلِكم.
الثالث: أنّها متعلقة بمحذوف، دَلَّ عليه السياقُ.
قال أبو البقاء: تقديره: دام لكم ذلك إلى وقتِ فَشَلِكُم.
القول الثاني: أنَّها حرف ابتداءٍ داخلة على الجملة الشرطية، و{إذَا} على بابها- من كونها شرطية- وفي جوابها- حينئذٍ- ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: قال الفرّاء: جوابها {وتَنَازَعْتُمْ} وتكون الواو زائدة، كقوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ} [الصافات: 103- 104] والمعنى ناديناه، كذا- هنا- الفشل والتنازع صار موجبًا للعصيان، فكأنَّ التقدير: حتى إذا فَشِلْتُم، وتنازعتم في الأمر عصيتم.
قال: ومذهب العرب إدخال الواو في جواب {حَتَّى} كقوله: {حتى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] فإن قيل: قوله: {فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ} معصية، فلو جعلنا الفشل والتنازُع علةً للمعصية لزم كونُ الشيء علةً لنفسه، وذلك فاسدٌ.
فالجواب: أن المراد من العصيان- هنا- خروجهم عن ذلك المكانِ، فلم يلزم تعليلُ الشيء بنفسه. ولم يَقْبَل البصريون هذا الجوابَ؛ لأن مذهَبهمْ أنه لا يجوزُ جَعْلَ الواو زائدة.
قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ} و{ثم} زائدة.
قال أبو علي: ويجوز أن يكون الجواب {صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} و{ثُمَّ} زائدة، والتقدير: حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم. وقد أنشد بعضُ النحويين في زيادتها قول الشاعر: [الطويل]
أرَانِي إذَا مَا بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوًى ** فَثُمَّ إذَا أصْبَحْتُ أصْبَحْتُ غَادِيَا

وجوز الأخفشُ أن تكون زائدةً في قوله تعالى: {حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أن لا مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 118] وهذان القولان ضعيفانِ جدًا.
والثالث- وهو الصحيحُ- أنه محذوف، واختلفت عبارتهم في تقديره، فقدَّرَه ابنُ عطيةَ: انهزمتم وقدَّره الزمخشريُّ: منعكم نصرَه.
وقدَّره أبو البقاء: بأن أمركم. ودلّ على ذلك قوله تعالى: {مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} [آل عمران: 152].
وقدره غيره: امتحنتم.
وقيل فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، وتقديره: حتّى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم.
وقدَّره أبو حيان: انقسمتم إلى قسمَيْن، ويدلُّ عليه ما بعده، وهو نظيرُ قوله: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} [لقمان: 32].
قال أبو حيان: لا يقال: كيف يقالُ: انقسمتم إلى مريدِ الدُّنْيَا، وإلى مريدِ الآخرةِ فيمن فشل وتنازع وعصى؛ لأن هذه الأفعالَ لم تصدر من كُلِّهم، بل من بعضِهِمْ.
واختلفوا في {إذا}- هذه- هل هي على بابها أم بمعنى إذ؟ والصحيح الأول، سواء قلنا إنها شرطية أم لا.
قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ} عطفٌ على ما قبله، والجملتان من قوله: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} اعتراض بين المتعاطفين، وقال أبو البقاء: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ} معطوف على الفعل المحذوف.
يعني الذي قدره جوابًا للشرط، ولا حاجة إليه، و{لِيَبْتَلِيَكُمْ} متعلق بـ {صَرَفَكُمْ} وأن مضمرة بعد اللام. اهـ. بتصرف.
لطيفة:
وإنَّما سمّيت مخالفة من خالف أمر الرسول عصيانًا، مع أن تلك المخالفة كانت عن اجتهاد لا عن استخفاف، إذ كانوا قالوا: إنّ رسول الله أمرنا بالثبات هنا لحماية ظهور المسلمين، فلمَّا نصر الله المسلمين فما لنا وللوقوف هنا حتَّى تفوتنا الغنائم، فكانوا متأوَّلين، فإنَّما سمّيت هنا عصيانًا لأنّ المقام ليس مقام اجتهاد، فإنّ شأن الحرب الطاعة للقائد من دون تأويل، أو لأنّ التأويل كان بعيدًا فلم يعذروا فيه، أو لأنَّه كان تأويلًا لإرضاء حبّ المال، فلم يكن مكافئًا لدليل وجوب طاعة الرّسول. اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال أبو حيان:
وتضمنت هذه الآيات من البيان والبديع ضروبًا: من ذلك الاستفهام الذي معناه الإنكار في: أم حسبتم.
والتجنيس المماثل في: انقلبتم ومن ينقلب، وفي ثواب الدنيا وحسن ثواب.
والمغاير في قولهم: إلا أن قالوا.
وتسمية الشيء باسم سببه في: تمنون الموت أي الجهاد في سبيل الله، وفي قوله: {وثبت أقدامنا} فيمن فسر ذلك بالقلوب، لأن ثبات الأقدام متسبب عن ثبات القلوب.
والالتفات في: وسنجزي الشاكرين.
والتكرار في: ولما يعلم ويعلم لاختلاف المتعلق.
أو للتنبيه على فضل الصابر.
وفي: أفإن مات أو قتل لأن العرف في الموت خلاف العرف في القتل، والمعنى: مفارقة الروح الجسد فهو واحد.
ومن في ومن يرد ثواب الجملتين، وفي: ذنوبنا وإسرافنا في قول من سوى بينهما، وفي: ثواب وحسن ثواب.
وفي: لفظ الجلالة، وفي: منكم من يريد الجملتين.
والتقسيم في: ومن يرد وفي منكم من يريد.
والاختصاص في: الشاكرين، والصابرين، والمؤمنين.
والطباق: في آمنوا أن تطيعوا الذين كفروا.
والتشبيه في: يردّوكم على أعقابكم، شبه الرجوع عن الدين بالراجع القهقري، والذي حبط عمله بالكفر بالخاسر الذي ضاع ربحه ورأس ماله وبالمنقلب الذي يروح في طريق ويغدو في أخرى، وفي قوله: {سنلقى}.
وقيل: هذا كله استعارة.
والحذف في عدة مواضع. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري:

قوله جلّ ذكره: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤمِنِينَ}.
قيمة كل أحدٍ إرادته؛ فَمَنْ كانت همتُه الدنيا فقيمتُه خسيسةٌ حقيرة كالدنيا، ومن كانت همتُه الآخرة فشريفٌ خطره، ومن كانت همتُه ربانية فهو سيد وقته.
ويقال مَنْ صفا عن إرادته وصل إليه، ومن وصل إليه أقبل- بلطفه- عليه، وأزلفه بمحل الخصوصية لديه.
قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ}: الإشارة منه أنه صرف قومًا عنه فشغلهم بغيره عنه، وآخرون صرفهم عن كل غير فأفردهم له؛ فالزاهدون صرفهم عن الدنيا، والعابدون صرفهم عن اتباع الهوى، والمريدون صرفهم عن المنى، والموحِّدون صرفهم عما هو غيرٌ وسوى. اهـ.

.من فوائد الجصاص:

قال عليه الرحمة:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ الله وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} فِيهِ إخْبَارٌ بِتَقَدُّمِ وَعْدِ الله تعالى لَهُمْ بِالنَّصْرِ عَلَى عَدُوِّهِمْ مَا لَمْ يَتَنَازَعُوا وَيَخْتَلِفُوا، فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ ظَهَرُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ وَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الرُّمَاةَ بِالْمُقَامِ فِي مَوْضِعٍ وَأن لا يَبْرَحُوا، فَعَصَوْا وَخَلَّوْا مَوَاضِعَهُمْ حِينَ رَأَوْا هَزِيمَةَ الْمُشْرِكِينَ وَظَنُّوا أنه لَمْ يَبْقَ لَهُمْ بَاقِيَةٌ وَاخْتَلَفُوا وَتَنَازَعُوا، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ وَرَائِهِمْ فَقَتَلُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَنْ قَتَلُوا بِتَرْكِهِمْ أَمْرَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِصْيَانِهِمْ.
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا مَوْعُودَ الله كَمَا وَعَدَ قَبْلَ الْعِصْيَانِ، فَلَمَّا عَصَوْا وُكِلُوا إلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّصْرَ مِنْ الله فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ مَضْمُونٌ بِاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي طَاعَتِهِ، وَعَلَى هَذَا جَرَتْ عَادَةُ الله تعالى لِلْمُسْلِمِينَ فِي نَصْرِهِمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ.
وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إنَّمَا يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ بِالدِّينِ وَيَرْجُونَ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ وَغَلَبَتَهُمْ بِهِ لَا بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ الله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}.
فَأَخْبَرَ أَنَّ هَزِيمَتَهُمْ إنَّمَا كَانَتْ لِتَرْكِهِمْ أَمْرَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِخْلَالِ بِمَرَاكِزِهِمْ الَّتِي رُتِّبُوا فِيهَا.
وَقال تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}.
وَإِنَّمَا أُتُوا مِنْ قَبْلُ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الدُّنْيَا مِنْهُمْ؛ قَالَ عَبْدُ الله بْنُ مَسْعُودٍ: مَا ظَنَنْت أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ قَاتَلَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الدُّنْيَا حَتَّى أَنْزَلَ الله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا}.
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَانَ الله قَدْ فَرَضَ عَلَى الْعِشْرِينَ أن لا يَفِرُّوا مِنْ مِائَتَيْنِ بِقوله تعالى: {إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} لِأَنَّهُ فِي ابْتِدَاءِ الإسلام كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْلِصِينَ لِنِيَّةِ الْجِهَادِ لِلَّهِ تعالى وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا، وَكَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا رَجَّالَةً قَلِيلِي الْعُدَّةِ وَالسِّلَاحِ وَعَدُوُّهُمْ أَلْفٌ فُرْسَانٌ وَرَجَّالَةٌ بِالسِّلَاحِ الشَّاكِّ، فَمَنَحَهُمْ الله أَكْتَافَهُمْ وَنَصَرَهُمْ عَلَيْهِمْ حَتَّى قَتَلُوا كَيْفَ شَاءُوا وَأَسَرُوا كَيْفَ شَاءُوا.
ثُمَّ لَمَّا خَالَطَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلُ بَصَائِرِهِمْ وَخُلُوصُ ضَمَائِرِهِمْ خَفَّفَ الله تعالى عَنْ الْجَمِيعِ فَقَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ الله عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله} وَمَعْلُومٌ أنه لَمْ يُرِدْ ضَعْفَ قُوَى الْأَبْدَانِ وَلَا عَدَمَ السِّلَاحِ؛ لِأَنَّ قُوَى أَبْدَانِهِمْ كَانَتْ بَاقِيَةً وَعَدَدُهُمْ أَكْثَرُ وَسِلَاحُهُمْ أَوْفَرُ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أنه خَالَطَهُمْ مَنْ لَيْسَ لَهُ قُوَّةُ الْبَصِيرَةِ مِثْلُ مَا لِلْأَوَّلِينَ؛ فَالْمُرَادُ بِالضَّعْفِ هاهنا ضَعْفُ النِّيَّةِ؛ وَأَجْرَى الْجَمِيعَ مَجْرًى وَاحِدًا فِي التَّخْفِيفِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَصْلَحَةِ تَمْيِيزُ ذَوِي الْبَصَائِرِ مِنْهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ ضَعْفِ الْيَقِينِ وَقِلَّةِ الْبَصِيرَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْمِ الْيَمَامَةِ حِينَ انْهَزَمَ النَّاسُ: «أَخْلِصُونَا أَخْلِصُونَا» يَعْنُونَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ. اهـ.